الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
.تفسير الآية رقم (42): يريد ربك عز وجل أنْ يُطمئنك أن الذي كلَّفك بما كلَّفك به يضمن لك مُقوِّمات حياتك، فلن ينقطع عنك الهواء في يوم من الأيام، ولن تتأبَّى عليك الشمس أو القمر أو الأرض؛ لأنها مِلْك لله، لا يشاركه سبحانه في ملكيتها أحد يمنعها عنك، فاطمئن إلى أنها ستؤدي مهمتها في خدمتك إلى يوم القيامة، ولا تشغل نفسك بها، فقد ضمنها الله. ثم يقول رب العزة سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} .تفسير الآية رقم (43): قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [النور: 43] يعني: ألم تعلم، وقد وقفنا مع تطور العلم على كيفية تكوُّن المطر بين التبخير والتكثيف الذي يُكوِّن السحاب، وقلنا سابقاً: إن مُسطح الماء على الأرض ثلاثة أرباع اليابسة حتى تكفي هذه المساحة البخر اللازم لتكوّن المطر، ونحن نُجري مثل هذه العملية في تقطير الماء حين نغلي الماء ونستقبل البخار على سطح بارد، فتحدث له عملية التكثيف. وقد أوضحنا هذه العملية بكوب الماء حين تتركه ممتلئاً وتسافر مثلاً، فحين تعود تجد الكوب قد نقص قليلاً، أما إذا أرقْتَهُ على الأرضِ، فإنه يجفُّ سريعاً، وقبل أن تغادر المكان، لماذا؟ لأنك وسََعْتَ مساحة البَخْر. ومعنى {يُزْجِي سَحَاباً} [النور: 43] أي: يرسله برِفْق ومَهَل؛ لذلك لما وصف الشاعر مَشْي الفتاة قال: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43] أي: يجمع بعضه على بعض، وحين يُجمع الشيء بعضه على بعض لابد أن يبقى بينه فاصل، فلا يلتحم بغيره التحاماً تاماً، ولولا هذه الفواصل بين قِطَع السحاب، ولولا هذه الفتوق ما نزل الوَدَق من خلاله. ولو شاء سبحانه لجعل السحاب قطعة واحدة، ولكنه سبحانه يؤلف بينه ويُجمِّعه بعضه على بعض دون أنْ يُوحِّده تكويناً، فيحدث بذلك فراغاً بين قطع السحاب. أرأيتَ حين نلصق الورق بالصمغ مثلاً فمهما وضعت عليه من ثقل لابد أن يبقى بينه فراغات؛ لأنه ليس ذاتاً واحدة. وعملية تفريغ الهواء هذه تلاحظها حين تضع كوباً مبلولاً وتتركه لفترة، فيتبخر الماء من تحته ويخرج الهواء، فإذا أردْتَ رفعه وجدته صعباً لماذا؟ لتفريغ الهواء من تحت قاعدة الكوب، وفي هؤلاء الذين يعالجون الآلام الناتجة عن البرد، فيضعون الكوب مقلوباً على مكان الألم، ثم يُشعِلُون بداخله قطعة من القماش مثلاً لتحرق الهواء بداخل الكوب. وبذلك نمنع الخلل في التقاء الكوب بالجسم، وهذه المسألة هي سِرُّ عظمة قدماء المصريين في البناء، حيث تتماسك الحجارة دون وجود(مونه) تربط بينها. إذن: وجود الهواء بين الشيئن يُحدِث خللاً بينهما، ولولا هذا الخلل في السحاب ما نزل منه الماء، والمطر آية عظيمة من آيات الله لا نشعر بها، ولك أنْ تتصور كم يُكلِّفنا كوب الماء المقطّر حين نُعِدُّه في المعمل، فما بالك بالمطر الذي يسقي الأرض كلها؟ ثم يقول تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43] يعني: مُكدَّساً بعضه على بعض، وفي آية أخرى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] متراكم بعضه على بعض {فَتَرَى الودق} [النور: 43] أي: المطر: {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43] أي: من خلال هذه الفجوات والفواصل التي تفصل بين السُّحُب. وهذا الماء الذي ينزل من السماء فيُحيي به الله الأرض قد يأتي نقمةً وعذاباً، كما قال سبحانه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} [النور: 43] ولنا في أهل مأرب الذين أغرقهم الله عبرةٌ وعظة. ولو تأملتَ لوجدتَ الماء والنار عدويْن متقابلين يصعب مقاومتهما؛ لذلك كان العرب إلى عهد قريب يخافون الماء لما عاينوه من غرق بعد انهيار سدِّ مأرب؛ لذلك آثروا أنْ يعيشوا في الصحراء بعيداً عن الماء. وبالماء نجَّى الله تعالى موسى عليه السلام وأغرق عدوه فرعون، ففعل سبحانه الشيء وضده بالشيء الواحد. وقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} [النور: 43] أي: الضوء الشديد الذي يُحدِثه السحاب يكاد أن يخطف الأبصار، وفي البرق تتولد النار من الماء؛ لذلك حينما يقول تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] فصدِّق هذه الآية الغيبية؛ لأنك شاهدت نموذجاً لها في مسألة البرق. ثم يقول الحق سبحانه: {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} .تفسير الآية رقم (44): فالليل والنهار آيتان يتتابعان لكن دون رتابة، فالليل قد يأخذ من النهار، والنهار يأخذ من الليل، وقد يستويان في الزمن تماماً. ومن تقليب الليل والنهار ما يعتريهما من حَرٍّ أو برد أو نور وظلمة. إذن: فالمسألة ليست ميكانيكية رتيبة، إنما هي قيومية الله تعالى وقدرته في تصريف الأمور على مراده تعالى؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} [النور: 44]. العِبرة والعَبرة والعبور والتعبير كلها من مادة واحدة، نقول: هذا مكان العبور يعني الانتقال من جهة إلى جهة أخرى، وفلان عبَّر عن كذا، يعني: نقل الكلام النفسي إلى كلام باللسان، والعبرة أنْ ننظرَ في الشيء ونعتبر، ثم ننتقل منه إلى غيره، وكذلك العَبْرة لأنها حزن أسال شيئاً، فنزل من عيني الدمع. والعبرة هنا لمن؟ {لأُوْلِي الأبصار} [النور: 44] والمراد: الأبصار الواعية لا الأبصار التي تدرك فقط، والإنسان له إدراكات بوسائلها، وله عقل يستقبل المدركات ويغربلها، ويخلُص منها إلى قضايا، ومن الناس مَنْ يبصر لكنه لا يرى شيئاً ولا يصل من رؤيته إلى شيء، ومنهم أصحاب النظر الواعي المدقِّق، فالذي كتشف قوة البخار رأى القِدْر وهي تغلي وتفور فيرتفع عليها الغطاء، وهذا منظر نراه جميعاً الرجل والمرأة، والكبير والصغير، لكن لم يصل أحد إلى مثل ما وصل إليه. إذن: المراد الأبصار التي تنقل المبصر إلى العقل ليُحلِّله ويستنبط ما فيه من أسباب، لعله يستفيد منها بشيء ينفعه، والله تعالى قد خلق في الكون ظواهرَ وآياتٍ لو تأملها الإنسان ونظر إليها بتعقُّل وتبصُّر لاستنبطَ منها مَا يُثري حياته ويرتقي بها. ثم يقول الحق سبحانه: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} .تفسير الآية رقم (45): الدابة: كلّ ما يدبُّ على الأرض، سواء أكان إنساناً أو أنعاماً أو وحشاً، فكُلُّ ما له دبيب على الأرض خلقه الله من ماء حتى النملة لها على الأرض دبيب. وكل شيء يضخم قابل لأنْ يُصغَّر، وقد يُضخَّم تضخيماً لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كُنْهه، وقد يَصْغُر تصغيراً حتى لا تكاد تراه، وتحتاج في رؤيته إلى مُكبِّر، ومن عجائب الخَلْق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومُقوِّماتها، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم، ومن عظمة الخالق سبحانه أن يخلق الشيء الضخم الذي يفوق الإدراك لضخامته، ويخلق الشيء الضئيل الذي يفوق الإدراك لضآلته. ألاَ ترى أن ساعة(بج بن) أخذتْ شهرتها لضخامة حجمها، ثم جاء بعد ذلك مَنْ صنع الساعة في حجم فصِّ الخاتم، وفيها نفس الآلات التي في ساعة(بج بن)، كذلك خلق الله من الماء الفيل الضخم، وخلق الناموسة التي تؤرق الفيل رغم صِغَرها.. سبحان الخالق. ولما كان الماء هو الأصل في خِلْقة كل شيء حيٍّ وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأنْ يحجبوا عنه المائية فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطاً مائياً يعيش فيه. وهذه الخِلْقة ليست على شكل واحد ولا وتيرة واحدة في قوالب ثابتة، إنما هي ألوان وأشكال {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45]. والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حَيِّز مكاني إلى حَيِّز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يُوضِّح لنا سبحانه أن المشْي أنواع: فمن الدوابِّ مَنْ يمشي على بطنه، ومنه مَنْ يمشي على رِجْليْن، ومنهم مَنْ يمشي على أربع. وربنا سبحانه وتعالى بسط لنا هذه المسألة بَسْطاً يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلاً أن من الدواب مَنْ له أربع وأربعون مثلاً، وفي تنوع طُرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خَلْقه. لذلك قال بعدها: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} [النور: 45] لأن الآية لم تستقْص كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} [النور: 45] تندرج مثلاً(أُم أربعة وأربعين) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه. وكما سخر الله الإنسان لخدمة الإنسان، كذلك سخَّر الحيوان لخدمة الحيوان ليُوفِّر له مُقوِّمات حياته، ألاَ ترى الطير يقتات على فضلات الطعام بين أسنان التمساح مثلاً فينظفها له، إذن: فما في فم التمساح من الخمائر والبكتيريا هي مخزن قوت لهذه الطيور، ويحدث بينها توافق وانسجام وتعاون، حتى إن الطير إنْ رأى الصياد الذي يريد أن يصطاد التمساح فإنها تُحدِث صوتاً لتنبه التمساح حتى ينجو. ومن المشْيِ أيضاً السَّعْي بين الناس بالنميمة، كما قال تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]. وبعد أن أعطانا الحق تبارك وتعالى الأدلة على أن المْلك له وحده، وأن كل شيء يُسبِّح بحمده تعالى وإليه تُرجَع الأمور، وأنه تعالى خلق كُلَّ دابة من ماء، قال سبحانه: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} .تفسير الآية رقم (46): يعني: مَنْ ملك هذا الملْك وحده، وخلق لكم هذه العجائب أنزل لكم آيات بينات تحمل إليكم الأحكام، فكما فعل لكم الجميل، ووفر لكم ما يخدمكم في الكون، سمائه وأرضه، فأدُّوا أنتم ما عليكم نحو منهجه وأحكامه، واتبعوا هذه الآيات البينات. ومعنى: {مُّبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] أي: لاستقامة حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تحتاج لأنْ يتحرك الجميع ويؤدي كُلٌّ مهمته حتى تتساند الحركات ولا تتعاند، فالذي يُتعب الدنيا أن تبنى وغيرك يهدم. إذن: لابد من ضابط قيمي يضبط كل الحركات ويحثّ كل صانع أنْ يتقن صَنْعته ويُخلِص فيها، والإنسان غالباً لا يحسن إلا زاوية واحدة في حياته، هي حرفته وتخصصه، وربما لا يحسنها لنفسه؛ لأنه لا يتقاضى عليها أجراً، لذلك يقولون(باب النجار مخلع) أما إنْ عمل للآخرين فإنه يُحسِن عمله ويتقن صنعته، وكذلك يتقن الناس لك ما في أيديهم، فتستقيم الأمور، فأحْسن ما في يدك للناس، يحسنْ لك الناسُ ما في أيديهم. وقوله تعالى: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النور: 46]. ولقائل أنْ يسأل: وما ذنب مَنْ لم يدخل في هذه المشيئة فلم يُهْتد؟ وسبق أن قلنا: إن الهداية نوعان: هداية الدلالة وهداية المعونة على الدلالة. فالله تعالى يهدي الجميع هداية الدلالة، ويبين للكل أسباب الخير وسُبل النجاة وطريق الفلاح والأسلوب الأمثل في إدارة حركة الحياة، فمَنْ سمع كلام الله ووثق في توجيهه وأطاع في هداية الدلالة أعانه بهداية المعونة. فساعة تسمع: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108]. {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258]. فاعلم أنهم امتنعوا عن هداية الدلالة فامتنعت عنهم هداية المعونة، لا هداية الدلالة والإرشاد والبيان. وقلنا: إن كلمة {أَنزَلْنَآ} [النور: 46] تشعر باحترام الشيء المنزّل؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من العُلُو إلى الأدنى، فكأن ربك عز وجل حين يكلفك يقول لك: أريد أن أرتفع بك من مستوى الأرض إلى عُلو السماء؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]. أي: لا تضعوا لأنفسكم القوانين، ولا تسيروا خلف آرائكم وأفكاركم، إنما تعالوا إلى الله وخذوا منه سبحانه منهج حياتكم، فهو الذي خلقكم، وخلق لكم هذه الحياة. ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول}
|